فصل: ذكر غزو بختنصّر العرب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزو بختنصّر العرب:

قيل: أوحى الله إلى برخيا بن حنيا يأمره أن يقول لبخت نصّر ليغزو العرب فيقتل مقاتلتهم ويسبي ذراريهم ويستبيح أموالهم عقوبة لهم على كفرهم، فقال برخيا لبخت نصّر ما أمر به، فابتدأ بمن في بلاده من تجار العرب فأخذهم وبنى لهم حران بالنجف وحبسهم فيه ووكل بهم، وانتشر الخبر في العرب، فخرجت إليه طوائف منهم مستأمنين، فقبلهم وعفا عنهم فأنزلهم السواد، فابتنوا الأنبار، وخلّى عن أهل الحيرة فاتخذوها منزلاً حياة بخت نصّر.
فلمّا مات انضمّوا إلى أهل الأنبار، وهذا أول سكنى العرب السواد بالحيرة والأنبار، وسار إلى العرب بنجد والحجاز، فأوحى الله إلى برخيا وإرميا يأمرهما أن يسير إلى معدّ بن عدنان فيأخذاه ويحملاه إلى حرّان، وأعلمهما أنه يخرج من نسله محمد، صلى الله عليه وسلم، الذي يختم به الأنبياء؛ فسارا تطوى لهما المنازل والأرض حتى سبقا بخت نصّر إلى معد، فحملاه إلى حرّان في ساعتهما، ولمعدّ حينئذٍ اثنتا عشرة سنة، وسار بخت نصّر فلقي جموع العرب فقاتلهم فهزمهم وأكثر القتل فيهم، وسار إلى الحجاز فجمع عدنان العرب والتقى هو وبخت نصّر بذات عرق قاتلوا قتالاً شديداً، فانهزم عدنان وتبعه بخت نصّر إلى حصون هناك، واجتمع عليه العرب وخندق كلّ واحد من الفريقين على نفسه وأصحابه، فكمّن بخت نصّر كميناً، وهو أول كمين عمل، وأخذتهم السيوف، فنادوا بالويل، ونهي عدنان عن بخت نصّر، وبخت نصّر عن عدنان، فافترقا، فلما رجع بخت نصّر خرج معد بن عدنان مع الأنبياء حتى أتى مكّة فأقام أعلامها وحج ّوحجّ معه الأنبياء، وخرج معدّ حتى أتى ريشوب وسأل عمّن بقي منولد الحرث بن مضاض الجرهميّ، فقيل له: بقي جوشم بن جلهمة، فتزوج معد ابنته معانة، فولدت له نزار بن معدّ.

.ذكر بشتاسب والحوادث في ملكه وقتل أبيه لهراسب:

لما ملك بشتاسب بن لهراسب ضبط الملك وقرّر قوانينه وابتنى بفارس مدينة فسا ورتّب سبعة من عظماء أهل مملكته مراتب وملك كلّ واحد منهم مملكة على قدر مرتبته، ثمّ إنّه أرسل إلى ملك الترك، واسمه خرزاسف، وهو أخو أفراسياب، وصالحه، واستقرّ الصلح على أن يكون لبشتاسب دابّة واقفة على باب ملك الترك لا تزال علي عادتها على أبواب الملوك، فلما جاء زرادشت إلى بشتاسب واتبعه على ما ذكرناه أشار زرادشت على بشتاسب بنقض الصلح مع ملك الترك، وقال: أنا أعيّن لك طالعاً تسير فيه إلى الحرب فتظفر؛ وهذا أول وقت وضعت فيه الاختيارات للملوك بالنجوم؛ وكان زرادشت عالماً بالنجوم جيّد المعرفة بها، فأجابه بشتاسب إلى ذلك، فأرسل إلى الدابّة التي بباب ملك الترك والى الموكّل بها فصرفهما، فغضب ملك الترك وأرسل اليه يتهدده وينكر عليه ذلك ويأمره بإنفاذ زرادشت إليه وإن لم يفعل غزاه وقتله وأهل بيته.
فكتب إليه بشتاسب كتاباً غليظاً يؤذنه فيه بالحرب، وسار كلّ واحد منهما إلى صاحبه والتقيا واقتتلا قتالاً شديداً، فكانت الهزيمة على الترك، وقتلوا قتلاً ذريعاً، ومرّوا منهزمين، وعاد بشتاسب إلى بلخ، وعظم أمر زرادشت عند الفرس، وعظم شأنه حيث كان هذا الظفر بقوله.
وكان أعظم الناس غناء في هذه الحرب إسفنديار بن بشتاسب، فلما انجلت الحرب سعى الناس بي بشتاسب وابنه اسفنديار وقالوا: ويريد الملك لنفسه، فندبه لحرب بعد حرب، ثمّ أخذه وحبسه مقيّداً.
ثم إنّ بشتاسب سار إلى ناحية كرمان وسجستان وسار إلى جبل يقال له طمبدر لدراسة دينه والتنسّك هناك، وخلف أباه لهراسب ببلخ شيخاً قد أبطله الكبر، وترك بها خزائنه وأولاده ونساءه، فبلغت الأخبار إلى ملك الترك خرزاسف، فلمّا تحققها جمع عساكره وحشد وسار إلى بلخ وانتهز الفرصة بغيبة بشتاسب عن مملكته، ولما بلغ بلخ ملكها وقتل لهراسب وولدين لبشتاسب والهرابذة وأحرق الدواوين وهدم بيوت النيران وأرسل السرايا إلى البلاد، فقتلوا وسبوا وأخربوا، وسَبى ابنتين لبشتاسب إحداهما خُمانى والأخرى باذافره، وأخذ علمهم الأكبر المعروف بدرفش كابيان، وسار متبعاً لبشتاسب، وهرب بشتاسب من بين يديه فتحصّن بتلك الجبال مما يلي فارس، وضاق ذرعاً بما نزل به.
فلما اشتدّ عليه الأمر أرسل إلى ابنه اسفنديار مع عالمهم جاماسب، فأخرجه من محبسه واعتذر إليه ووعده أن يعهد إليه بالملك من بعده، فلمّا سمع إسفنديار كلامه سجد له ونهض من عنده وجمع من عنده من الجند وبات ليلته مشغولاً بالتجهّز وسار من الغد نحو عسكر الترك وملكهم، والتقوا واقتتلوا والتحمت الحرب وحمي الوطيس، وحمل إسفنديار على جانب من العسكر فأثّر فيه ووّهنه، وتابع الحملات، وفشا في الترك أنّ إسفنديار هو المتولّي لحربهم، فانهزموا لا يلوون على شيء، وانصرف إسفنديار وقد ارتجع درفش كابيان.
فلمّا دخل على أبيه استبشر به وأمره باتباع الترك ووصّاه بقتل ملكهم ومن قدر عليه من أهله ويقتل من الترك من أمكنه قتله وأن يستنقذ السبايا والغنائم التي أُخذت من بلادهم، فسار إسفنديار ودخل بلاد الترك وقتل وسبى وأخرب وبلغ مدينتهم العظمى ودخلهم عنوة وقتل الملك وإخوته ومقاتلته واستباح أمواله وسبى نساءه واستنقذ أختيه ودوّخ البلاد وانتهى إلى آخر حدود بلاد الترك والى التّبّت، وأقطع بلاد الترك، وجعل كلّ ناحية إلى رجل من وجوه الترك بعد أن آمنهم ووظف عليهم خراجاً يحملونه كلّ سنة إلى أبيه بشتاسب، ثم عاد إلى بلخ.
فحسده أبوه بما ظهر منه من حفظ الملك والظفر بالترك، وأسرّ ذلك في نفسه، وأمره بالتجهّز والمسير إلى قتال رستم الشديد بسجستان، وقال له: هذا رستم متوسّط بلادنا ولا يعطينا الطاعة لأن الملك كيكاووس وأعتقه فأقطعه إيّاها؛ وقد ذكرنا ذلك في ملك كيكاوو؛ وكان غرض بشتاسب أن يقتله رستمُ أو يقتل هو رستم، فإنه كان أيضاً شديد الكراهة لرستم، فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فجمع العساكر وسار إلى رستم لينزع سجستان منه، فخرج إليه رستم وقاتله، فقتل إسفنديار، قتله رستم.
ومات بشتاسب، وكان ملكه مائة سنة واثنتي عشرة سنة، وقيل: مائة وعشرين سنة، وقيل: مائة وخمسين سنة.
وقيل: إنه جاءه رجل من بني اسرائيل زعم أنه نبيّ أرسل إليه واجتمع به ببلخ، فكان يتكلّم بالعبريّ وزرادشت نبيّ المجوس يعبّر عنه، وجاماسب العالم هو حاضر معهم يترجم أيضاً عن الاسرائيلي، وكان بشتاسب ومن قبله من آبائه وسائر الفرس يدينون بدين الصابئة قبل زرادشت.

.ذكر الخبر عن ملوك بلاد اليمن من أيام كيكاووس إلى أيام بهمن بن اسفنديار:

قد مضي ذكر الخبر عمّن زعم أنّ كيكاووس كان في عهد سليمان بن داود، وقد ذكرنا من كان في عهد سليمان من ملوك اليمن والخبر عن بلقيس بنت ايلشرح، وصار الملك بعد بلقيس إلى ياسر بن عمرو بن يعفر الذي يقال له أنعم الانعامة، قال أهل اليمن: إنّه سار غازياً نحو المغرب حتى بلغ وادياً يقال له وادي الرمل، ولم يبلغه أحد قبله، فلمّا انتهى اليه لم يجد وراءه مجازاً لكثرة الرمل، فبينما هو مقيم عليه إذ انكشف الرمل فأمر رجلاً يقال له عمرو أن يعبر هو وأصحابه، فعبروا، فلم يرجعوا، فلمّا رأى ذلك أمر بنصب صنم نحاس، فصُنع ثمّ نُصب على صخرة على شفير الوادي وكتب على صدره بالمسند: هذا الصنم لياسر أنعم الحميريّ، ليس وراءه مذهب فلا يتكلّفنّ أحد ذلك فيعطب.
وقيل: إنّ وراء ذلك الرمل قوماً من أمّه موسى، وهم الذين عنى الله بقوله: {ومن قوم موسى أمّة يهدون بالحق وبه يعدلون} الأعراف: 951؛ والله أعلم.
ثمّ ملك بعده تُبّع، وهو تُبّان، وهو أسعد، وهو أبو كرب بن ملكيكرب تّبع بن زيد بن عمرو بن تبّع، وهو ذو الأذعار بن أبرهة تبّع ذي المنار بن الرايش بن قيس بن صيفي بن سبأ، وكان يقال له الزايد، وكان تبّع هذا في أيام بشتاسب وأردشير بهمن بن إسفنديار بن بشتاسب، وإنه شخص متوجّهاً من اليمن في الطريق الذي سلكه الرايش حتى خرج على جبلي طيّء، ثمّ سار يريد الأنبار، فلمّا انتهى إلى موضع الحيرة تحيّر، وكان ليلاً، فأقام بمكانه، فسمّي ذلك المكان بالحيرة، وخلّف به قوماً من الأزد ولخم وجُذام وعاملة وقُضاعة، فبنوا وأقاموا به، ثمّ انتقل إليهم بعد ذلك ناس من طيّء وكلب والسكون وبلحرث بن كعب وإياد، ثم توجّه إلى الموصل، ثم إلى أذربيجان، فلقي الترك فهزمهم، فقتل المقاتلة وسبى الذرّيّة، ثم عاد إلى اليمن، فهابته الملوك وأهدوا إليه، وقدمت عليه هديّة ملك الهند، وفيها تحف كثيرة من الحرير والمسك والعود وسائر طرف الهند، فرأى ما لم يرَ مثله، فقال للرسول: كلّ هذا في بلدكم؟ فقال: أكثره من بلد الصين، ووصف له بلد الصين، فحلف ليغزونها، فسار بحمير حتى أتى إلى الركائك وأصحاب القلانس السود، ووجّه رجلاً من أصحابه يقال له ثابت نحو الصين في جمع عظيم، فأصيب، فسار تبّع حتى دخل الصين، فقتل مقاتلتها واكتسح ما وجد فيها، وكان مسيره ومقامه ورجعته في سبع سنين.
ثمّ إنهّ خلّف بالتّبّت اثني عشر ألف فارس من حمير، فهم أهل التّبّت، ويزعمون أنهم عرب، وألوانهم ألوان العرب وخلقهم.
وهكذا ذكر، وقد خالف هذه الرواية كثير من أصحاب السير والتواريخ، وكل واحد منهم خالف الآخر، وقدّم بعضهم من أخره الآخر، فلم يحصل منهم كثير فائدة، ولكن ننقل ما وجدنا مختصراً.

.ذكر خبر أردشير بهمن وابنته خماني:

ثم ملك بعد بشتاسب ابن ابنه أردشير بهمن بن اسفنديار، وكان مظفراً في مغازيه، وملك أكثر من أبيه، وقيل: إنه ابتنى بالسواد مدينة وسمّاها أياوان أردشير، وهي القرية المعروفة بهمينيا بالزاب الأعلى، وابتنى بكور دجلة الأبلّة، وسار إلى سجستان طالباً بثأر أبيه، فقتل رستم وأباه دستان وابنه فرامرز. وبهمن هو أبو دارا الأكبر، وأبو ساسان أبي ملوك الفرس الأحرار أردشير ابن بابك وولده، وأمّ دارا خمانى ابنة بهمن، فهي أخته وأمّه.
وغزا بهمن رومية الداخلة في ألف ألف مقاتل، وكان ملوك الأرض يحملون إليه الإتاوة، وكان أعظم ملوك الفرس شأناً وأفضلهم تدبيراً. وكانت أمّ بهمن من نسل بنيامين بن يعقوب، وأم ابنه ساسان من نسل سليمان بن داود، وكان ملك بهمن مائة وعشرين سنة، وقيل: صمانين سنة، وكان متواضعاً مرضيّاً فيهم، وكانت كتبه تخرج: من عبد الله خادم الله السائس لأموركم.
ثمّ ملكت بعده ابنته خمانى، ملكوها حبّاً لأبيها ولعقلها وفروسيتها، وكانت تلقّب بشهرزاد، وقيل: إنما ملكت لأنها حين حملت منه دارا الأكبر سألته أن يعقد التاج له في بطنها ويؤثره بالملك، ففعل بهمن وعقد التاج عليه حملاً في بطنها، وساسان بن بهمن رجل يتصنع للملك، فلمّا رأى فعل أبيه لحق باصطخر وتزهّد ولحق برؤوس الجبال واتخذ غنماً، وكان يتولاها بنفسه، فاستبشعت العامّة ذلك منه.
وهلك بهمن وابنه دارا في بطن أمه، فملكوها، ووضعته بعد أشهر من ملكها، فأنفت من إظهار ذلك وجعلته في تابوت وجعلت معه جواهر وأجرته في نهر الكرّ من اصطخر، وقيل: بنهر بلخ، وسار التابوت إلى طحّان من أهل اصطخر، ففرح لما فيه من الجوهر، فحضنته امرأته، ثم ظهر أمره حين شبّ، فأقرّت خمانى بإساءتها، فلما تكامل امتحن فوجد على غاية ما يكون أبناء الملوك، فحوّلت التاج إليه وسارت إلى فارس وبنت مدينة اصطخر، وكانت قد أوتيت ظفراً وغزت الروم وشغلت الأعداء عن تطرّق بلادها، وخفّفت عن رعيّتها الخراج؛ وكان ملكها ثلاثين سنة.
وقيل: إنّ خمانى أم دارا حضنته حتى كبر فسلّمت إليه وعزلت نفسها، فضبط الملك بشجاعة وحزم.
ونرجع إلى ذكر بني اسرائيل ومقابلة تاريخ أيّامهم إلى حين تصرّمها ومدّة من كان في أيامهم من ملوك الفرس.
قد ذكرنا فيما مضي سبب انصراف من انصرف إلى بيت المقدس من سبايا بني اسرائيل الذي كان بخت نصّر سباهم، وكان ذلك في أيّام كيرش بن اخشويرش، وملكه ببابل من قبل بهمن وأربع سنين بعد وفاته في ملك ابنته خُمانى، وكانت مدّة خراب بيت المقدس من لدن خرّبّه بخت نصّر مائة سنة، كلّ ذلك في أيّام بهمن بعضه وفي أيّام ابنته خُمانى بعضه، وقيل غير ذلك، وقد تقدّم ذكر الاختلاف.
وقد زعم بعضهم أنّ كيرش هو بشتاسب، وأنكر عليه قوله ولم يملك كيرش منفرداً قطّ.
ولما عمر بيت المقدس ورجع إليه أهله كان فيهم عزير، وكان الملك عليهم بعد ذلك من قبل الفرس إما رجل منهم وإما رجل من بني اسرائيل، إلى أن صار الملك بناحيتهم لليونانية والروم لسبب غلبة الإسكندر على الناحية حين قتل داراً بن دارا، وكان جملة مدّة ذلك فيما قيل ثمانياً وثمانين سنة.

.ذكر خبر دارا الأكبر وابنه دارا الأصغر وكيف كان هلاكه مع خبر ذي القرنين:

وملك دارا بن بهمن بن إسفنديار، وكان يلقّب جهرازاد، يعني كريم الطبع، فنزل ببابل، وكان ضابطاً لملكه قاهراً لمن حوله من الملوك، يؤدّون إليه الخراج، وبنى بفارس مدينة سمّاها دارابجرد، وحذّف دوابّ البرد ورتّبها، وكان معجباً بابنه دارا ومن حبّه له سمّاه باسم نفسه وصيّر له الملك بعده. وكان ملكه اثنتين وعشرين سنة.
ثم ملك بعده ابنه دارا وبنى بأرض الجزيرة بالقرب من نصيبين مدينة دارا، وهي مشهورة إلى الآن، واستوزر إنساناً لا يصلح لها، فأفسد قلبه على أصحابه، فقتل رؤساء عسكره واستوحش منه الخاصّة والعامّة، وكان شابّاً غرّاً جميلاً حقوداً سيّء السيرة في رعيّته.
وكان ملكه أربع عشرة سنة.

.ذكر الإسكندر ذي القرنين:

كان فيلفوس أبو الاسكندر اليونانيّ من أهل بلدة يقال لها مقدونية، كان ملكاً عليها وعلى بلاد أخرى، فصالح دارا على خراج يحمله إليه في كلّ سنة، فلما هلك فيلفوس ملك بعده ابنه الاسكندر واستولى على بلاد الروم أجمع، فقوي على دارا فلم يحمل إليه من الخراج شيئاً، وكان الخراج الذي يحمله بيضاً من ذهب، فسخط عليه دارا وكتب إليه يؤنّبه بسوء صنيعه في ترك حمل الخراج، وبعث إليه بصولجان والرة ويترك الملك، وإن لم يفعل ذلك واستعصى عليه بعث إليه من يأتيه به في وثاق، وإنّ عدّة جنوده كعدّة حبّ السمسم الذي بعث به إليه.
فكتب إليه الاسكندر: إنه قد فهم ما كتب به، وقد نظر إلى ما ذكر في كتابه إليه من إرساله الصولجان والكرة وتيمّن به لإلقاء الملقي الكرة إلى الصولجان واحترازه إيّاها؛ وشبّه الأرض بالكرة، وأنّه يجرّ ملك دارا إلى ملكه، وتيمّنه بالسمسم الذي بعث كتيمّنه بالصولجان والكرة لدسمه وبعده من المرارة والحرافة، وبعث إليه بصرّة فيها خردل، وأعلمه في ذلك أنّ ما بعث به إليه قليل ولكنّه مرّ حرّيف، وأنّ جنوده مثله، فلمّا وصل كتباه إلى دارا تأهّب لمحاربته.
وقد زعم بعض العلماء بأخبار الأوّلين أنّ الإسكندر الذي حارب دارا بن دارا هو أخو دارا الأصغر الذي حربه، وأنّ أباه دارا الأكبر كان تزّوج أمّ الإسكندر، وهي ابنة ملك الروم، فلمّا حُملت إليه وجد نتن ريحها وسهكها، فأمر أن يحتال لذلك منها؛ فاجتمع رأي أهل المعرفة في مداواتها على شجرة يقال لها بالفارسيّة سندر، فغسلت بمائها فأذهب ذلك كثيراً من نتنها ولم يذهب كلّه، وانتهت نفسه عنها، فردّها إلى أهلها، وقد علقت منه فولدت في أهلها غلاماً فسمّته باسم الشجرة التي غُسلت بمائها مضافاً إلى اسمها، وقد هلك أبوها وملك الإسكندر بعده، فمنع الخراج الذي كان يؤديه جدّه، إلى دارا، فأرسل يطلبه، وكان بيضاً من ذهب، فأجابه: إنّي قد ذبحت الدجاجة التي كانت تبيض ذلك البيض وأكلت لحمها، فإن أحببت وادعناك، وإن أحببت ناجزناك.
ثم خاف الإسكندر من الحرب فطلب الصلح، فاستشار دارا أصحابه، فأشاروا عليه بالحرب لفساد قلوبهم عليه، فعند ذلك ناجزه دارا القتال، فكتب الإسكندر إلى حاجبي دارا وحكّمهما على الفتك بدارا، فاحتكما شيئاً، ولم يشترطا أنفسهما، فلمّا التقيا للحرب طعن دارا حاجباه في الوقعة، وكان الحرب بينهما سنة، فانهزم أصحاب دارا ولحقه الاسكندر وهو بآخر رمق.
وقيل: بل فتك به رجلان من حرسه من أهل همذان حبّاً للراحة من ظلمه، وكان فتكهما به لما رأيا عسكره قد انهزم عنه، ولم يكن ذلك بأمر الإسكندر، وكان قد أمر الإسكندر منادياً ينادي عند هزيمة عسكر دارا أن يؤسر دارا ولا يُقتل، فأخبر بقتله، فنزل إليه ومسح التراب عن وجهه وجعل رأسه في حجره وقال له: إنما قتلك أصحابك وإنني لم أهمّ بقتلك قطّ، ولقد كنتُ أرغب بك يا شريف الأشراف ويا ملك الملوك وحُرّ الأحرار عن هذا المصرع، فأوص بما أحببت، فأوصاه دارا أن يتزوّج ابنته روشنك ويرعى حقها ويعظّم قدرها ويستبقي أحرار فارس ويأخذ له بثأره ممّن قتله، ففعل الاسكندر ذلك أجمع وقتل حاجبي دارا، وقال لهما: إنكما لم تشترطا نفوسكما، فقتلهما بعد أن وفى لهما بما ضمن لهما، وقال: ليس ينبغي أن يُستبقى قاتل الملوك إلا بذمّة لا تخفر، وكان التقاؤهما بناحية خراسان مما يلي الخزر، وقيل: ببلاد الجزيرة عند دارا.
وكان ملك الرّوم قبل الإسكندر متفرّقاً فاجتمع، وملك فارس مجتمعاً فتفرّق، حمل الإسكندر كتباً وعلوماً لأهل فارس من علوم ونجوم وحكمة ونقله إلى الرومية.
وقد ذكرنا قول من قال إنّ الإسكندر أخو دارا لأبيه، وأمّا الروم وكثير من أهل الأنساب فيزعمون أنّه الإسكندر بن فيلفوس، وقيل فيلبوس بن مطريوس، وقيل: ابن مصريم بن هرمس بن هردس بن ميطون بن رومي بن ليطي بن يونان بن يافث بن ثوبة بن سرحون بن روميط بن زنط بن توقيل بن رومي بن الأصفر بن اليفز بن العيص بن اسحاق بن ابراهيم.
فجمع بعد هلك دارا مُلك دارا فملك العراق والشام والروم ومصر والجزيرة، وعرض جنده فوجدهم على ما قيل ألف ألف وأربعمائة ألف رجل، منهم من جنده ثمانمائة ألف رجل، ومن جند دارا ستّمائة ألف رجل، وتقدّم بهدم حصون فارس وبيوت النيران وقتل الهرابذة، وأحرق كتبهم، واستعمل على مملكة فارس رجالاً، وسار قدماً إلى أرض الهند فقتل ملكها وفتح مدنها وخرّب بيوت الأصنام وأحرق كتب علومهم، ثم سار منها إلى الصين، فلمّا وصل إليها أتاه حاجبه في الليل وقال: هذا رسول ملك الصين، فأحضره فسلّم وطلب الخلوة، ففّتّشوه فلم يروا معه شيئاً، فخرج من كان عند الإسكندر، فقال: أنا ملك الصين جئت أسألك عن الذي تريده، فإن كان مما يمكن عمله عملته وتركت الحرب، فقال له الاسكندر: ما الذي آمنك مني؟ قال: علمت أنك عاقل حكيم ولم يكن بيني وبينك عداوة ولا دخل، وأنت تعلم أنك إن قتلتني لم يكن قتلي سبباً لتسليم أهل الصين مُلكي إليك، ثم إنّك تنسب إلى الغدر.
فعلم أنه عاقل فقال له: أريد منك ارتفاع ملكك لثلاث سنين عاجلاً ونصف الارتفاع لكل سنة، قال: قد أجبتك ولكن أسألني كيف حالي، قال: قل كيف حالك؟ قال: أكون أوّل قتيل لمحارب وأول أكلة لمفترس، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنتين؟ قال: يكون حالي أصلح قليلاً، قال: فإن قنعت منك بارتفاع سنة؟ قال: يبقى ملكي وتذهب لذّاتي، قال: وأنا أترك لك ما مضى وآخذ الثلث لكلّ سنة فكيف يكون حالك؟ قال: يكون السدس للفقراء والمساكين ومصالح البلاد، والسدس لي، والثلث للعسكر، والثالث لك، قال: قد قنعتُ منك بذلك، فشكره وعاد، وسمع العسكر بذلك ففرحوا بالصلح.
فلمّا كان الغد خرج ملك الصين بعسكر عظيم أحاط بعسكر الإسكندر، فركب الإسكندر والناس، فظهر ملك الصين على الفيل وعلى رأسه التاج، فقال له الإسكندر: أغدرت؟ قال: لا ولكنّي أردت أن تعلم أني لم أطعك من ضعف ولكني لما رأيت العالم العلويّ مقبلاً عليك أردت طاعته بطاعتك والقرب منه بالقرب منك، فقال له الإسكندر: لا يسأم مثلك الجزية، فما رأيت بيني وبينك من يستحق الفضل والوصف بالعقل غيرك، وقد أعفيتك من جميع ما أردته منك وأنا منصرف عنك، فقال له ملك الصين: فلست تخسر، وبعث إليه بضعف ما كان قرّره معه، وسار الإسكندر عنه من يومه ودانت له عامّة الأرضين في الشرق والغرب وملك التّبّت وغيرها.
فلمّا فرغ من بلاد المغرب والمشرق وما بينهما قصد بلاد الشمال، وملك تلك البلاد ودان له من بها من الأمم المختلفة إلى أن اتّصل بديار يأجوج ومأجوج، وقد اختلفت الأقوال فيهم، والصحيح أنهم نوع من الترك لهم شوكة وفيهم شرّ، وهم كثيرون، وكانوا يفسدون فيما يجاورهم من الأرض ويخربون ما قدروا عليه من البلاد ويؤذون من يقرب منهم، فلمّا رأى أهلُ تلك البلاد الإسكندر شكوا إليه من شرّهم، كما أخبر اللّه عنهم في قوله: {ثمَّ أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدّين} الكهف: 93 وهما جبلان متقابلان لا يرتقى فيهما وليس لهما مخرج إلا من الفرجة التي بينهما فلما بلغ إلى تلك وقارب السدين- {وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولاً قالوا يا ذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سدّاً قال ما مكّنّي فيه ربيّ خيرٌ فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً} الكهف: 93- 95، يقول: ما مكّنّي فيه ربيّ خير من خرجكم، ولكن أعينوني بالقوّة، والقوّة الفعلة والصُّناع والآلة التي يبنى بها، فقال: {آتوني زبر الحديد} الكهف: 96، أي قطع الحديد، فأتوه بها، فحفر الأساس حتى بلغ الماء، ثمّ جعل الحديد والحطب صفوفاً بعضها فوق بعض {حتى إذا ساوى بين الصّدفين} وهما جبلان، أشعل النار في الحطب فحمي الحديد وأفرغ عليه القطر، وهو النحاس المذاب، فصار موضع الحطب وبين قطع الحديد، فبقي كأنّه برد محبّر من حمرة النحاس وسواد الحديد، وجعل أعلاه شرفاً من الحديد، فامتنعت يأجوج ومأجوج من الخروج إلى البلاد المجاورة لهم، قال الله تعالى: {فما اسطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً} الكهف: 97.
فلمّا فرغ من أمر السدّ دخل الظلمات مما يلي القطب الشمالي، والشمس جنوبية، فلهذا كانت ظلمة، وإلا فليس في الأرض موضع إلا تطلع الشمس عليه أبداً، فلمّا دخل الظلمات أخذ معه أربعمائة من أصحابه يطلب عين الخلد، فسار فيها ثمانية عشر يوماً، ثم خرج ولم يظفر بها، وكان الخضر على مقدّمته، فظفر بها وسبح فيها وشرب منها، والله أعلم.
ورجع إلى العراق فمات في طريقه بشهر زور بعلّة الخوانيق، وكان عمره ستّاً وثلاثين سنة في قول، ودفن في تابوت من ذهب مرصّع بالجوهر وطلي بالصبر لئلا يتغيّر وحمل إلى أمه بالاسكندرية.
وكان ملكه أربع عشرة سنة، وقتل دارا في السنة الثالثة من ملكه، وبنى اثني عشرة مدينة، منها: أصبهان، وهي التي يقال لها جَبّي، ومدينة هراة، ومرو، وسمرقند، وبنى بالسواد مدينة لروشنك ابنة دارا، وبأرض اليونان مدينة، وبمصر الاسكندرية.
فلمّا مات الإسكندر أطاف به من معه من الحكماء اليونانيين والفرس والهند وغيرهم، فكان يجمعهم ويستريح إلى كلامهم، فوقفوا عليه، فقال كبيرهم: ليتكلم كلّ واحد منكم بكلام يكون للخاصّة معزّياً وللعامّة واعظاً، ووضع يده على التابوت وقال: أصبح آسر الأسراء أسيراً، وقال آخر: هذا الملك كان يخبأ الذهب فقد صار الذهب يخبأه، وقال آخر: ما أزهد النّاس في هذا الجسد وما أرغبهم في التابوت، وقال آخر: من أعجب العجب أنّ القويّ قد غلب والضعفاء لا هون مغترّون، وقال آخر: هذا الذي جعل أجله ضماراً وجعل أمله عياناً، هلاّ باعدت من أجلك لتبلغ بعض أملك، بل هلاّ حقّقت من أملك بالامتناع من وفور أجلك، وقال آخر: أيّها الساعي المنتصب جمعت ما خذلك عند الاحتياج إليه فغودرت عليه أوزاره وقارفت آثامه فجمعت لغيرك وإثمه عليك، وقال آخر: قد كنت لنا واعظاً فما وعظتنا موعظة أبلغ من وفاتك فمن كان له معقول فليعقل، ومن كان معتبراً فليعتبر، وقال آخر: رُبّ هائب لك يخافك من ورائك وهو اليوم بحضرتك ولا يخافك، وقال آخر: رُبّ حريص على سكوتك إذ لا تسكت، وهو اليوم حريص على كلامك إذ لا تتكلّم، وقال آخر: كم أماتت هذه النفس لئلاّ تموت وقد ماتت، وقال آخر، وكان صاحب كتب الحكمة: قد كنت تأمرني أن لا أبعد عنك فاليوم لا أقدر على الدنّو منك، وقال آخر: هذا يوم عظيم أقبل من شرّه ما كان مدبراً، وأدبر من خيره ما كان مقبلاً، فمن كان باكياً على مَنْ زال ملكه فليبك، وقال آخر: يا عظيم السلطان اضمحل سلطانك كما اضمحلّ ظلّ السحاب، وعفت آثار مملكتك كما عفت آثار الذباب، وقال آخر: يا من ضاقت عليه الأرض طولاً وعرضاً ليت شعري كيف حالك بما احتوى عليك منها وقال آخر: اعجبوا مّمن كان هذا سبيله كيف شهر نفسه بجمع الأموال الحطام البائد والهشيم النافد، وقال آخر: أيّها الجمع الحافل والملقى الفاضل لا ترغبوا فيما لا يدوم سروره وتنقطع لذّته، فقد بان لكم الصلاح والرشاد من الغيّ والفساد، وقال آخر: يا من كان غضبُه الموت هلاّ غضبت على الموت وقال آخر: قد رأيتم هذا الملك الماضي فليتعظ به هذا الملك الباقي، وقال آخر: إن الذي كانت الآذان تنصت له قد سكت فليتكلّم الآن كلّ ساكت، وقال آخر: سيلحق بك مَنْ سرّه موتك كما لحقت بمن سرّك موته، وقال آخر: ما لك لا تقلّ عضواً من أعضائك وقد كنت تستقلّ بملك الأرض بل ما لك لا ترغب عن ضيق المكان الذي أنت فيه وقد كنت ترغب عن رحب البلاد وقال آخر: إنّ دنيا يكون هذا في آخرها فالزهد أولى أن يكون في أولها.
وقال صاحب مائدته: قد فرشتُ النمارق ونضدت النضائد ولا أرى عميد القوم، وقال صاحب بيت ماله: قد كنت تأمرني بالادّخار فإلى من أدفع ذخائرك؟.
وقال آخر: هذه الدنيا الطويلة العريضة قد طويت منها في سبعة أشبار ولو كنت بذلك موقناً لم تحمل على نفسك في الطلب.
وقالت زوجته روشنك: ما كنتُ أحسب أنّ غلاب دارا يُغلب، فإنّ الكلام الذي سمعت منكم فيه شماتة، فقد خلف الكأس الذي شرب به ليشربه الجماعة، وقالت أمّه حين بلغها موته: لئن فقدت من ابني أمرَه لم يُفقد من قلبي ذكره.
فهذا كلام الحكماء فيه مواعظ وحكم حسنة فلهذا أثبتّها.
ومن حيل الإسكندر في حروبه أنه لما حارب دارا خرج إلى بين الصفّين وأمر منادياً فنادى: يا معشر الفرس قد علمتم ما كتبتم إلينا وما كتبنا إليكم من الأمان، فمن كان منكم على الوفاء فليعتزل فإنّه يرى منّا الوفاء، فاتّهمت الفرس بعضها بعضاً واضطربوا.
ومن حيله أنّه تلقّاه ملك الهند بالفيلة، فنفرت خيلُ أصحابه عنها، فعاد عنه وأمر باتخاذ فيلة من نحاس وألبسها السلاح وجعلها مع الخيل حتى ألفتها، ثمّ عاد إلى الهند، فخرج إليهم ملك الهند، فأمر الإسكندر بتلك الفيلة فملئت بطونها من النفط والكبريت وجرّت على العجل إلى وسط المعركة ومعها جمع من أصحابه، فلما نشبت الحرب أمر بإشعال النار في تلك الفيلة، فلمّا حميت انكشف أصحابه عنها وغشيتها فيلة الهند، فضربتها بخراطيمها فاحترقت وولّت هاربة راجعة على الهند، فانهزموا بين يديها.
ومن حيله أنّه نزل على مدينة حصينة وكان بها كثير من الأقوات وبها عيون ماء، فعاد عنها فأرسل إليها قوماً على هيئة التجّار ومعهم أمتعة يبيعونها وأمرهم بمشترى الطعام والمغالاة في ثمنها، فإذا صار عندهم أحرقوه وهربوا، ففعلوا ذلك وهربوا إليه فأنفذ السرايا إلى سواد تلك المدينة وأمرهم بالغارة مرّة بعد أخرى، فهربوا ودخلوا البلد ليحتموا به، فسار الإسكندر إليهم، فلم يمتنعوا عليه.
وكتب إلى أرسطاطاليس يذكر له أنّ من خاصّة الروم جماعة لهم همم بعيدة ونفوس كبيرة وشجاعة، وأنّه يخافهم على نفسه ويكره قتلهم بالظنّة، فكتب إليه أرسطاطاليس: فهمتُ كتابك، فإنّ ما ذكرت من بعد هممهم فإنّ الوفاء من بعد الهمّة وكبر النفس، والغدر من دناءة النفس وخسّتها، وأما شجاعتهم ونقص عقولهم فمن كانت هذه حاله فرفّهه في معيشتته واخصصه بحسان النساء، فإنّ رفاهية العيش تميت الشجاعة وتحبّب السلامة، وإيّاك والقتل فإنّه زلّة لا تستقال وذنب لا يغفر، وعاقب بدون القتل تكن قادراً على العفو، فما أحسن العفو من القادر، وليحسن خلقك تخلص لك النيّات بالمحبة، ولا تؤثر نفسك على أصحابك، فليس مع الاستئثار محبّة، ولا مع المؤاساة بغضة.
وكتب إلى أرسطاطاليس أيضاً لما ملك بلاد فارس يذكر له أنّه رأى بإيران شهر رجلاً ذوي رأي وصرامة وشجاعة وجمال وأنساب رفيعة، وأنّه إنّما ملكهم بالحظّ والإنفاق، وأنّه لا يأمن، إذا سافر عنهم فأفرغهم، وثوبهم، وأنّه لا يُكفى شرّهم إلاّ ببوارهم، فكتب إليه: قد فهمت كتابك في رجال فارس، فأمّا قتلهم فهو من الفساد والبغي الذي لا يؤمن عاقبته، ولو قتلتهم لأثبت أهل البلد أمثالهم وصار جميع أهل البلد أعداءك بالطبع وأعداء عقبك لزنّك تكون قد وترتهم في غير حرب، وأمّا إخراجك إيّاهم من عسكرك فمخاطرة بنفسك وأصحابك، ولكنّي أشير عليك برأي هو أبلغ من القتل، وهو أن تستدعي منهم أولاد الملوك ومن يصلح للملك فتقلّدهم البلدان وتجعل كلّ واحد منهم ملكاً برأسه فتتفرّق كلمتهم ويقع بأسهم بينهم ويجتمعون على الطاعة والمحبّة لك ويرون أنفسهم صنيعتك، ففعل الإسكندر ذلك، فهم ملوك الطوائف، وقيل في ملوك الطوائف غير هذا السبب، ونحن نذكره إن شاء الله.